الوسيلة هي الرسالة:
يرفض ماكلوهان رأي نقاد وسائل الأعلام الذين يدعون أن وسائل الأعلام الجديدة ليست في حد ذاتها جيدة أو رديئة، لكن الطريقة التي تستخدم بها هذه الوسائل هي التي ستحد أو تزيد من فائدتها، يقترح ماكلوهان بدلاً من ذلك أنه علينا أن نفكر في طبيعة وشكل وسائل الأعلام الجديدة، فمضمون التليفزيون الضعيف ليس له علاقة بالتغيرات الحقيقية التي يسببها التليفزيون، كذلك قد يتضمن الكتاب مادة تافهة أو مادة كلاسيكية، ولكن ليس لهذا دخل بعملية قراءته. فالرسالة الأساسية في التليفزيون هي التليفزيون نفسه، العملية نفسها، كما أن الرسالة الأساسية في الكتاب هي المطبوع. فالرأي الذي يقول أن وسائل الأعلام أدوات يستطيع الإنسان أن يستخدمها في الخير أو الشر، رأي تافه عند ماكلوهان. فالتكنولوجيا الحديثة، مثل التليفزيون أصبحت ظرفاً جديداً محيطاً مضمونه ظرف أقدم.وهذا الظرف الجديد يعدل جذريا الأسلوب الذي يستخدم به الناس حواسهم الخمس، والطريقة التي يستجيبون بها إلى الأشياء. ولا يهم إذا عرض التليفزيون عشرين ساعة يوميا أفلام( رعاة البقر) التي تنطوي على عنف وقسوة، أو برامج ثقافية راقية، فالمضمون غير مهم، ولكن التأثير العميق للتليفزيون هو الطريقة التي يعدل بمقتضاها الناس الأساليب التي يستخدمون بها حواسهم Sensory Patterns ويعبر عن هذا بقوله المختصر المشهور (الوسيلة هي الرسالة-
The Medium is The Message ) ويعتبر هذا من أهم الإضافات التي قدمها مارشال ماكلوهان إلى ما قاله هارولد أنيس في كتابه (تحيز الاتصال) فقد حلل ماكلوهان الطريقة التي يفترض أن المطبوع يؤثر بمقتضاها، وقال أن المطبوع يفرض منطقاً معيناً على تنظيم التجربة البصرية، لأنه يحطم الواقع إلى وحدات منفصلة ومتصلة بشكل منطقي وسببي، يتم إدراكه بشكل سطري على الصفحة بعد تجريدها من طبيعة الحياة الكلية، غير المرتبة، وذات الأبعاد الحسية المتعددة. ويسبب هذا عدم توازن في علاقة بالظروف المحيطة به، لأن المطبوع يؤكد نوع من المعلومات يتم إدراكها بواسطة العين بدلاً من المعلومات التي يحصل عليها الفرد بواسطة الاتصال الشخصي، عن طريق كل الحواس، ولأن الكتابة والقراءة هما من أوجه النشاط الشخصية التي تتناول تجربة مجردة، فهما يفقدان الفرد لقبليته، ويأخذانه خارج الثقافة الشفهية الوثيقة العرى، ويضعانه في ظرف خاص أو شخصي، بعيداً عن الواقع الذي يتناوله اتصاله.
وبالطبع فإن تطور المطبوع يسبب تماثلاً بين أبناء البلد الواحد، ويقرب البعيد، وبهذا تحل المدينة محل القرية، وتحل دولة الأمة محل دولة المدينة.ويعني ماكلوهان أيضا بفكرة (الوسيلة هي الرسالة ) بالإضافة إلى هذا أن مضمون أي وسيلة هو دائما وسيلة أخرى، فالضوء الكهربائي مثلاً هو معلومات صرفه، فهو وسيلة بلا رسالة، إلا إذا استخدم لتقديم إعلان أو رسم، ولكن إذا نظرنا إلى الكتابة نجد أن مضمونها هو الكلام، والكلمة المكتوبة هي مضمون المطبوع، والمطبوع هو مضمون التلغراف، ومضمون الكلام هو عملية التفكير التي تعتبر غير لفظية، فمضمون الظروف الجديدة هو الظروف الأقدم.ونحن نحاول دائما أن نفرض الشكل القديم على المضمون الجديد، وحينما كان الإنتاج الآلي جديداً خلق – بالتدريج- ظروفا محيطة جديدة كان مضمونها الظروف القديمة للحياة الزراعية والفن والحرف..فالظرف الآلي الجديد الذي يحيط بالأفراد حول الطبيعة إلى شكل فني، وللمرة الأولي بدأ الإنسان يعتبر المطبعة مصدراً لقيم جميلة وروحية، وبدأ الناس في الإعجاب بالعصور السابقة، بينما لم يكن الأفراد الذين عاشوا في العصور التي سبقت عصر الإنتاج الآلي على وعي بعالم الطبيعة كفن، وكل تكنولوجيا جديدة تخلق ظروفا جديدة محيطة تعتبر هي نفسها فاسدة تحط بالشأن،ولكن الجديد يحول ما يسبقه دائما إلى شكل فني.
فحينما كانت الكتابة جديدة، حول أفلاطون الحوار الشفهي القديم إلى شكل فني، وحينما كانت الطباعة جديدة أصبحت العصور الوسطى شكلاً فنياً، وحوّل عصر الصناعة عصر النهضة إلى شكل فني.
ونظرا لأن التكنولوجيا الحديثة المتغلغلة قد خلقت سلسلة كاملة من الظروف الجديدة، أصبح الإنسان واعيا ومدركا للفنون على أنها ( ضد الظروف المحيطة Anti –Environments ) والأسلوب الذي تدرب به الإنسان قديماً على الملاحظة لم تعد له صلة بالعصر الذي نعيش فيه، لأنه يقوم على الاستجابات السيكولوجية والمفاهيم التي تأثرت بالتكنولوجية القديمة- تكنولوجية الميكنة- وقد يفسر هذا (عصر القلق ) الذي نعيش فيه، فنحن نشعر بالقلق لأننا نحاول أن نقوم بعمل اليوم بأدوات الأمس، وبمفاهيم الأمس.
وقد أصبح الشاب اليوم يدرك بالفطرة الظروف الحالية المحيطة أي الدراما الكهربائية، فهو يعيش بعمق، وربما كان هذا هو السبب في الفجوة الكبيرة الموجودة بين الأجيال، فالحروب والثورات والتمرد المدني هي من ظواهر الظروف الجديدة المحيطة التي خلقتها وسائل الأعلام الكهربائية، فقد أصبح زمننا هو زمن عبور الحواجز لإزالة الفئات القديمة، وللبحث عما حولنا، وتعمل الثقافة الغربية الرسمية على جعل وسائل الأعلام الجديدة تقوم بمهام الوسائل القديمة، لذلك نشهد حاليا أوقاتاً صعبة نتيجة للتصادم بين تكنولوجيتين عظيمتين، فنحن نقترب من الجديد بالاستعداد السيكولوجي للقديم، وباستجاباتنا الحسية الملائمة للقديم، وهذا الصدام يحدث بالطبع في المرحلة الانتقالية،فالفن في أواخر العصور الوسيطة عبّر عن الخوف من تكنولوجية المطبوع بفكرة رقصة الموت.
واليوم يتم التعبير عن مخاوف مماثلة في مسرح العبث، والإنسان لم يكن يدرك أبدا القواعد الأساسية لنظم ظروفه المحيطة أو ثقافات الظروف المحيطة، ولكن اليوم نظراً لأن ظروفنا المحيطة أصبحت تتغير بسرعة،أصبحنا قادرين حاليا على رؤية المستقبل، من الظروف المحيطة الحالية. فالفلسفة الوجودية ومسرح العبث هي ظواهر المحيط الجديد الذي يعتمد على الكهرباء،هذه الظواهر تمثل الفشل الشائع الناتج عن محاولتنا أن نقوم بالعمل المطلوب الذي تتطلبه الظروف الجديدة المحيطة بأدوات أو وسائل الظروف القديمة.
والمهم أن أي (رسالة ) أو أي (وسيلة) أو أي تكنولوجيا، هي تغيير للمدى أو المساحة أو الشكل الذي تدخله في الشئون البشرية.لم تدخل السكة الحديد الحركة أو المواصلات أو الطريق، في المجتمع البشري، ولكنها عملت على توسيع نطاق Scale تلك المهام البشرية السابقة،خالقة أنواعا جديدة من المدن، وأنواعا جديدة من العمل ووقت الفراغ،حدث ذلك في أي مكان عملت فيه السكة الحديد، بشكل مستقل تماماً عن الحمولة أو المضمون الذي تحمله السكة الحديد كوسيلة للمواصلات، والطائرة من ناحية أخرى، بإسراعها بالمواصلات تميل إلى حل شكل السكة الحديد في المدينة والسياسة والارتباط، مستقلة تماما عن استخدامات الطائرة المختلفة أو ما تحمله.
إذا عدنا مرة أخرى إلى نموذج الضوء الكهربائي نجد أنه سواء استخدام في عمل عملية جراحية في المخ أو في إضاءة مباراة الكرة السلة، فهذا ليس مهماً، نستطيع أن نقول أن أوجه النشاط تلك هي بشكل ما مضمون الضوء الكهربائي، حيث أنها لا يمكن أن تتواجد بدون ضوء كهربائي.هذه الحقيقة تصور وجهة النظر التي تسيطر على مدى الارتباط البشري وشكله وعلى العمل البشري، أما المضمون أو استخدام الوسيلة فهو متنوع ولا يؤثر على تشكيل الارتباط البشري، ولكن الملاحظ أن مضمون أي وسيلة يلهينا عن طبيعة الوسيلة نفسها، والضوء الكهربائي لا يلفت انتباهنا كوسيلة اتصال لأنه ليس له ( مضمون) وهذا يجعله مثالا طيبا لا ظهار الطريقة التي يفشل بسببها الناس تماما في دراسة وسائل الأعلام، فإذا لم يستخدم الضوء الكهربائي في عرض اسم سلعة فلن يلاحظه أحد كوسيلة،وفي هذه الحالة، فأن الضوء وليس ( المضمون ) الذي هو في الواقع وسيلة أخرى، وهو الذي لم تتم ملاحظته.
رسالة الضوء الكهربائي مثل رسالة الطاقة الكهربائية في الصناعة جذرية وشاملة وغير مركزية،ونظراً لأن الضوء الكهربائي والطاقة منفصلان عن استخداماتهما إلا أنهما يستبعدان عوامل الزمن والمساحة في الارتباط البشري، تماما كما يفعل الراديو، والتلغراف، والتليفون، والتليفزيون، خالقين اشتراطا أو اندماجاً Involvement بعمق.
كنا قد تحدثنا عن الأطفال الذين نشأوا عهد التليفزيون، وذكرنا أنهم يختلفون عن الأطفال الذين نشأوا في عهد المطبوع، نلاحظ حاليا أن نسبة كبيرة من الأطفال في المجتمعات الغربية الذين نشأوا في عهد التليفزيون يتركون المدارس في سن مبكرة، والسبب ليس الظروف الاقتصادية أو الظروف الاجتماعية السيئة، ولكن السبب هو أن طفل اليوم هو طفل التليفزيون، فالتليفزيون قدم ظروفا جديدة لتكييف بصري منخفض Low Visual Orientation واشتراك مرتفع، الأمر الذي يجعل قبول أسلوب التعليم القديم صعباً.قد تكون أحدى الاستراتيجيات لمواجهة هذه المشكلة هي رفع المستوى البصري لصورة التلفزيون لتمكن التلميذ من الوصول إلى مستوى يقترب من العالم البصري القديم لحجرة الدراسة والمناهج المقررة، وهذا يستحق التجربة كحل مؤقت، ولكن التليفزيون عنصر واحد من عناصر الجو الإلكتروني المحيط الذي يعتمد على شبكة أو دائرة الكترونية جاءت مباشرة، بعد العالم الذي اعتمد على العجلة والصامولة والمسمار. لقد أصبح لزاما علينا أن نسهل انتقالنا من العالم البصري المجزأ، أي عالم المطبوع، حتى نصل إلى أسلوب للتعليم نستخدم فيه كل وسيلة حديثة متوافرة.
حاليا يسمح لشباب اليوم بادراك معالجة التراث التقليدي للبشرية من خلال باب الوعي التكنولوجي، فقد أغلق المجتمع هذا الباب الوحيد الممكن ذلك لأن المجتمع ينظر إلى الشاب من خلال مرآة تعكس الأشياء والخليقة (أي الماضي) يعيش الشباب اليوم بعمق في عالم خيالي أو سحري بينما يواجه – عندما يتعلم – ظروفا منظمة على أساس المعلومات المصنفة، أي الموضوعات غير المتصلة التي يتم إدراكها بصريا على أساس خطي. لا توجد أمام الطالب وسيلة للاشتراك ولا يستطيع أن يكتشف كيف تتصل المشاريع التعليمية بعالمه الخيالي الذي يتحرك فيه، وعلى المؤسسات التعليمية أن تدرك بسرعة أننا نعيش في حرب بين تلك الظروف المحيطة ووسائل الأعلام الأخرى، غير الكلمة المطبوعة، فالفصل الدراسي في كفاح مرير من اجل الحياة في العالم الخارجي الذي خلقته وسائل الأعلام الحديثة، ويجب أن ينتقل التعليم من التدريس، ومن فرض صور مطبوعة أو متماثلة على الطلبة إلى الكشف والاكتشاف والتعمق.
والوسيلة هي الرسالة، تعني بالإضافة إلى ذلك، أشياء أخرى فقول ماكلوهان يشير أيضا إلى أن لكل وسيلة جمهوراً من الناس الذين يفوق حبهم لهذه الوسيلة اهتمامهم بمضمونها، بمعنى آخر التليفزيون كوسيلة هو محور لاهتمام كبير، فكما يحب الناس أن يقرءوا من اجل الاستمتاع بممارسة تجربة المطبوع، وكما يجد الكثيرون متعة في التحدث إلى أي شخص في التلفون، كذلك يحب البعض التليفزيون بسبب الشاشة التي تتحرك عليها الصور، والصوت.
ع لاوة على ذلك،(الرسالة) في الوسيلة هي تأثير الأشكال التي تظهر بها على المجتمع.الرسالة المطبوعة كانت كل جوانب الثقافة الغربية التي أثر عليها المطبوع، والرسالة في وسيلة السينما هي مرحلة الانتقال من الروابط السطرية إلى الأشكال، كذلك يقترح ماكلوهان أن بناء الوسيلة ذاتها مسئول عن نواحي القصور فيها ومسئول عن مقدرتها على إيصال المضمون، فهناك وسيلة أفضل من وسيلة أخرى في إثارة تجربة معينة، كرة القدم مثلاً،أفضل في التليفزيون منها في الراديو أو في عمود الجريدة، ومباراة كرة القدم الرديئة على شاشة التليفزيون أكثر إثارة من مباراة عظيمة تذاع بالراديو، ولكن على العكس من ذلك أغلب تحقيقات الهيئات النيابية، أقل إثارة للملل في الجريدة عنها في التليفزيون، ويبدو أن كل وسيلة بها (ميكانيزم ) خاص بها يجعل بعض الموضوعات أفضل من موضوعات أخرى.
الوسائل الساخنة والوسائل الباردة:
وقد ابتكر ماكلوهان، في تعريفه لذلك ( الميكرنيزم ) اصطلاحات فئات( الساخن) و (البارد ) ليصف في نفس الوقت بناء وسيلة الاتصال أو التجربة التي يتم نقلها ومدى تفاعلها، وما نطلق عليه كلمة (بارد) تستخدم عادة في وقتنا الحاضر لتعني الجدال الذي ينغمس فيه الناس بشدة، ومن ناحية أخرى (الاتجاه البارد) كان يعني الحياد الذي يميل إلى الابتعاد وعدم الاهتمام، كلمة (ساخن) أصبحت غير مستخدمة حينما طرأت تغيرات عميقة على طريقة النظر للأمور، ولكن التعبير الدارج (بارد) ينقل قدرا إلى جانب الفكرة القديمة (ساخن) فهو يشير إلى نوع من الالتزام والمساهمة في ظروف تتضمن قدرات الفرد كلها.
ماكلوهن لا يهاجم فقط السطرية، ولكن أيضا الطبيعة التجريدية للغة المطبوعة التي تعتبر من عناصر قوتها، وبدلاَ من المقدرة على التجريد، يهتم بالمقدرة على التخيّل التي تعتبر محور فكرته أو مفهومه، الذي يقتبس دائما حينما يفرق بين الوسائل (الساخنة ) و ( الباردة).. فالوسيلة ( الساخنة) هي الوسيلة التي لا تحافظ على التوازن في استخدام الحواس أو الوسيلة التي تقدم المعنى، مصنوعاً جاهزاً إلى حد ما، مما يقلل احتياج الفرد للخيال لكي يكون صورة للواقع من العلاقات التي تقدم إليه،أما الوسيلة (الباردة ) فهي الوسيلة التي تحتاج إلى أو تحافظ على التوازن بين الحواس، وتحتاج لقدر كبير من الخيال،ولكن حتى ماكلوهان نفسه لا يتسم بالثبات الكامل في تصنيفه لوسائل الأعلام تحت هاتين الفئتين، فهو يعتبر المطبوع والراديو من الوسائل (الساخنة)، التي تستخدم كل منهما حاسة واحدة، ولا تحتاج (في رأي ماكلوهان ) إلا لقدر بسيط من الخيال، بينما يعتبر الفيلم الناطق والتليفزيون، من (الوسائل الباردة ) التي تحتاج، كما يقول ماكلوهان، إلى أقصى درجة من الجهد الخيالي من جانب المتفرجين. والغريب في نتائج ماكلوهان المتصلة بالاحتياج للخيال أنه، لا يعتمد أساسا على الحاجة للتنظيم والتجريد من القدر الكبير من التجربة المحددة التي يقدمها التليفزيون، ولكنه يهتم أساسا بأسلوب الإدراك، بمعنى أن التليفزيون يقدم عددا كبيرا من نقاط الضوء الصغيرة التي يجب أن تنظمها الأنظمة العصيبة والحسية المركزية، وتكون منها صورة للواقع.
بهذا المعنى يستطيع الفرد أن يعتبر الآلية الذاتية Automation باردة، في حين أن الأنواع الميكانيكية القديمة أو (الوظائف) المجزأة، ساخنة، والشخص التقليدي أو غير المتطور أو المحافظ ليس ( بارداً) لأن قدراته لا تساهم بعمق.
الوسيلة الساخنة أو التجربة الساخنة، درجة وضوحها مرتفعة، High Definition أو هي أقرب للأشياء الطبيعية، فهي على درجة عالية من الفردية، كما أن بها قدرا كبيرا من المعلومات المطلوبة، ولا تحتاج إلى مساهمة كبيرة من جانب المتلقي، أما الوسيلة (الباردة ) فدرجة وضوحها (منخفضة ) والمعلومات التي تنقلها أيضاً منخفضة، وتتطلب من جانب الجمهور مساهمة لتكملة التجربة. صورة التليفزيون درجة وضوحها منخفضة، لذلك يضطر الفرد إلى المساهمة أو الاشتراك سيكولوجيا بدرجة كبيرة،أي يضطر المتفرج إلى أن يملأ المساحات التي يشاهدها بالعقل، كما يفعل بالكارتون، لهذا نجد متفرج التليفزيون أكثر اشتراكا في تكملة الصورة التي يقدمها التليفزيون منه في حالة الفيلم السينمائي، فهو مضطر لبذل مجهود، وهو يستعرض الصور بعينه ليكملها ويملأ نواحي النقص فيها.. يسمي ماكلوهان التليفزيون وسيلة (باردة ) والصحافة وسيلة (ساخنة) بسبب المدى الذي تشترك به حواسنا في كل منها،(وتأثير كل وسيلة على بناء المجتمع يتوقف،إلى حد كبير، على درجة حرارتها ) فإن الوسيلة الساخنة تسمح بمساهمة أقل من الوسيلة الباردة، فالمحاضرة مثلا تسمح بمساهمة أقل من الندوة ( السمنار) والكتاب يحتاج إلى مساهمة أقل من الحوار، والكارتون وضوحه أو دقته (منخفضة) ذلك لأنه يقدم قدرا بسيطا من المعلومات...فهو بارد.
المطبوع وسيلة ساخنة، يفرض نمطه على الصفحة، يتكرر بلا نهاية، وهو يقوم على التجريد، ويحمل المطبوع الإنسان بعيدا عن العلاقات الوثيقة التقليدية المعقدة إلى أسلوب الحياة الحديثة، من القبلية إلى الأممية، ومن الإقطاع إلى الرأسمالية، ومن الحرفية إلى الإنتاج على نطاق واسع، ومن الحكمة إلى العلم، والمطبوع يقوم على تعدد الرسائل والأنماط بشكل لا نهائي تقريبا.
الحديث الشفهي، على العكس من ذلك، وسيلة باردة، فهو يطور حواراً واستجابة، ورجع صدى، وأنماط معقدة ومتداخلة للعلاقات الشخصية، ومجتمعات مركزة في العائلة، وأخلاقيات عائلية وقبلية، واعتقاد أو إيمان بأشياء خارقة للطبيعة.
والراديو وسيلة ساخنة، وكان دائما وسيلة أساسية لتسخين الدماء في أفريقيا والهند والصين.
والفكرة الرئيسية أن الوسيلة الساخنة تُبعد، والوسيلة الباردة تقرّب أو تستوعب ؛ الوسائل الساخنة درجة المساهمة فيها أو تكميل الجمهور لما تقدمه، ضئيلة، أما الوسائل الباردة فدرجة مساهمة الجمهور في إكمال ما تقدمه عالية، الوسيلة الساخنة هي التي تمد الحواس، وهي على درجة عالية من الوضوح، ونعني بالوضوح العالي، توفير الوسيلة للمعلومات بشكل عام بدون مساهمة شديدة من جانب الجمهور، فالصور،على سبيل المثال،درجة وضوحها مرتفعة لذلك هي ساخنة، بينما الكارتون درجة وضوحه منخفضة لذلك فهو بارد، لأن الرسم الفج يوفر معلومات بصرية بسيطة جداً، ويستلزم من المتفرج أن يكمل الصورة بنفسه، ولهذا التليفون، الذي يعطي الأذن معلومات بسيطة نسبيا، هو وسيلة باردة، كذلك الكلام، فكلاهما يتطلب من المستمع قدراً كبيراً من التكميل أو ملء الفجوات،من ناحية أخرى، الراديو ليس وسيلة ساخنة لأنه يوفر بشكل حاد وعميق قدراً كبيراً من المعلومات المسموعة العالية في وضوحها بحيث لا تتطلب سوى جهداً بسيطاً من الجمهور لكي يكمله أو لا تترك أي شيء للجمهور لكي يكمله. المحاضرة،على نفس النمط، ساخنة، ولكن الندوة أو السمنار وسيلة باردة، والكتاب ساخن، ولكن المحادثة وسيلة باردة.
ويطبق ماكلوهان أيضا الاصطلاحين (ساخن) و(وبارد) على التجارب، وعلى الناس والدول، فيقول أن وسائل الأعلام الباردة أفضل بالنسبة للأفراد الذين يتميزون بطابع فردي إلى حد كبير، أي الأفراد الأكثر برودا الذين يصعب أثارتهم. ووسيلة مثل الراديو تحتاج إلى صوت يتصف بخصائص متميزة عن غيره، ويمكن التعرف عليه مباشرة،أما التليفزيون فيفضل الأفراد الذين تكون (درجة وضوحهم ) منخفضة جداً بحيث يظهرون عاديين ولكن بشكل إيجابي.
على هذا الأساس نستطيع أن نفسر جميع الظواهر التي كانت في الماضي لا تخضع للفحص والدراسة - مثل نجاح الشخص غير العاطفي أو غير المثير أو غير الجذاب في التليفزيون - أي الشخصيات العادية.
ويقول ماكلوهان (( أن التليفزيون وسيلة باردة، ترفض الشخصيات والموضوعات الساخنة أكثر من الصحافة التي تعتبر وسيلة ساخنة فلو كان التليفزيون موجودا على نطاق واسع خلال حكم هتلر لساعد ذلك على اختفاء هتلر بسرعة )) !!
وعلينا أن نشير إلى أنه بينما يعتبر ماكلوهان على تأثير الوسيلة نفسها نافع ومفيد،إلا أن تأثيرات الرسالة نفسها متنوعة أكثر من الوسيلة نفسها.فالرسالة هي الرسالة والوسيلة هي الوسيلة وكل واحدة تؤثر على الأخرى بحيث لا يمكن فصل واحدة عن الأخرى فالأخبار في الرأي الا بعض هي الأخبار بصرف النظر عن الوسيلة التي تنقل بها الناس ولو أن درجة اكتساب المعلومات من التليفزيون اذا لم يتطابق النص مع الصورة، قد تقل كثيرا هناك دليل على أن الإدراك وجمع نقط الضوء على شاشة التليفزيون يحدث اختلافا في التأثير كما أن هناك حاجة إلى اعادة التفكير في موضوع الخيال الذي يحتاج إليه نوع ما من أنواع الاتصال وهو الأمر الذي لفت ماكلوهان أنظارنا إليه فهناك من يقول بأن قدر الخيال الذي تحتاج إليه ترجمة المطبوع إلى صور واقعية أكبر من ذلك الذي تتطلبه مشاهدة التليفزيون، كما أن هناك من يقول بأن غياب الصوت في الأفلام الصامتة يحتاج لخيال أكبر من الخيال الذي تحتاج إليه الأفلام الناطقة.
وتأكيد ماكلوهان على تأثير الوسيلة نفسها مفيد،كما أن إشارته إلى تأثير التوازن أو عدم التوازن بين نسب استخدام وسائل الحس تؤثر على أو تعيد بناء كل قيمنا ومؤسساتنا، وهذا له أهمية كثيرة وتأثير المطبوع ألسطري على منطق التفكير، يعتبر من الأمور الجديرة بالدراسة، ولكن وقع ماكلوهان الأساسي ينبع مما قاله عن التليفزيون، فكلاً من ماكلوهان وهارولد أنيس يعتبران أن نمو وتطور المطبوع إلى عصر التليفزيون الجديد، فهو يرى أن التليفزيون سوف يعيد التوازن الصحي للحواس، وسوف يجعل الفرد يهتم بأمور أخرى غير شؤونه الخاصة، كما سوف يعيد الأحاسيس القبلية إليه.
فماكلوهان يرى أن مد جهازنا العصبي تكنولوجيا، يغمسنا في حركة تجمع عالمية للمعلومات، وتمكن الإنسان من إدماج البشرية كلها داخله، وإن دور الإنسان المتعلم في العالم الحديث، وهو دور الإنسان الذي يبعد نفسه ويفصل نفسه عن الأمور المختلفة، سوف يتغير ويتحول إلى مساهمة شديدة بسبب الوسائل الإلكترونية التي ستجعلنا مرة أخرى نعود إلى الترابط، ولكن الطبيعة المباشرة لحركة المعلومات الالكترونية تقوم على اللامركزية، وبدلا من توسيع عائلة الإنسان تميل إلى بناء وجود قبلي متعدد، ويظهر هذا بشكل خاص في الدول المتقدمة، حيث يخلق الصراع بين الثقافة القديمة والبطيئة والمجزأة، والثقافة الالكترونية الجديدة أزمة في تحديد الشخصية، وفراغ في الذات، يسبب عنفاً شديداً، بحثاً عن شخصية خاصة أو عامة.
فالتليفزيون سوف يعود بالفرد مرة أخرى إلى التجارب الجماعية للثقافة الشفهية وسوف يشجع المساهمة بدلا من الانسحاب والعزلة، والعمل بدلا من الاقتصار على التفكير، والعلاقات السليمة بدلا من القومية المتطرفة، فهذه النظرة إلى المفيد للتليفزيون في الوقت الذي ينشغل فيه الناس في التحذير من تأثير التليفزيون المادي والعنيف تعتبر من المساهمات الأساسية التي قدمها ماكلوهان.
المبحث الخامس
نظرية التقمص الوجداني
المقدرة على التقمص الوجداني جزء لا يتجزأ من الاتصال، لأنه يربط بين ذهن المرسل وذهن المتلقي، والتقمص الوجداني هو المقدرة عن فهم الحالة الذهنية لشخص آخر، كأن تقول لشخص آخر (أنني أفهم مشاعرك ) ..كيف يتحقق التقمص الوجداني ؟.. وما هي قيمته للاتصال في هذه العملية ؟
يكتسب الفرد المقدرة على التقمص الوجداني بالتحرك المادي من مكان إلى آخر أو عن طريق التعرض لوسائل الإعلام، التي تجعل التحرك السيكولوجي يحل محل التحرك المادي أو الجغرافي، وقيمة التقمص الوجداني للاتصال يمكن تلخيصها في أنه لكي نتصل يجب أن يتوافر لنا على الأقل ثلاثة عناصر:
1- وسائل مادية للاتصال
2- رجع صدى
3- مقدرة على التقمص الوجداني
والمقدرة على التقمص الوجداني، أي عمل استنتاجات عن الآخرين، وتغيير تلك الاستنتاجات لتتفق مع الظروف الجديدة ، هذه المقدرة معروفة منذ ألفي عام، فقد أشار إليها أفلاطون وسان جون وسان أوجستين وسان الاكويني Equnas وبعد ذلك سبينوزا Spinoza في مؤلفاتهم، وقد اعتبرها آدم سميث وهربرت سبنسر عملية انعاكس بدائي، وفي هذا القرن ناقش الباحثون ليبس Lipps وريبوت Ribot وشلير Scheler التقمص الوجداني في تحليلهم للعطف ، ويرجع الفضل في (نحت) كلمة الوجداني Empathy في اللغة الإنجليزية إلى تيوردور ليبس الذي سماها Feeling Into
وقد طور الباحث جورج ميد نظرية التقمص الوجداني في كتابهMind,self,and society فقد افترض ميد أنه حينما نتوقع أو نستنتج مشاعر الآخرين، وما سيفعلونه، وحينما نخرج بتنبؤات، تتضمن السلوك الخاص للإنسان ، واستجاباته الخفية ، وحالاته الداخلية ومعتقداته ، ومعانية،حينما نطور توقعات وحينما نتنبأ نفترض أن لدينا مهارة يسميها علماء النفس بالتقمص الوجداني، أي القدرة على الإسقاط وتصور انفسنا في ظروف الآخرين، ويساعد على تطوير تلك القدرة، التحرك المادي، من مكان إلى آخر،كذلك تعمل وسائلً الإعلام على تطوير المقدرة على التقمص الوجداني بين الأفراد الذين لم ينتقلوا من مجتمعاتهم المحلية أبداً، لأن تلك الوسائل تنقل العالم الخارجي إليهم.
وهناك نظريتان عن التقمص الوجداني:
نظرية تقول أننا نجرب الأشياء مباشرة، ونفس ما يفعله الآخرون وفقاً لخبراتنا، أي نفترض ان جميع الناس سوف يتصرفون بنفس الطريقة التي نتصرف بها، وإننا لا نستطيع أن نتنبأ بما سيفعله الآخرون، إذا لم نمر نحن أنفسنا بنفس التجربة التي يمرون بها.
والنظرية الثانية تقول اننا نحاول أن نضع أنفسنا في ظروف ومواقف الآخرين، وفي اتصالنا نتحول من الاستنتاجات إلى اخذ أدوار الآخرين، على أساس تنبؤاتنا.
كيف نطور هذه المقدرة على التقمص الوجداني ؟
إن هذا ه سؤال أساسي لطلبه الاتصال ، ولكن للأسف ليس لدينا رد قاطع عليه، فهناك بعض النظريات المتعلقة بالتقمص الوجداني تتفق مع الأدلة التي تم التوصل إليها بالبحث، ونستطيع أن نعرف التقمص الوجداني بأنه العملية التي نتوصل بمقتضاها إلى توقعات ، توقعات عن الحالات السيكولوجية الداخلية الإنسان .
كيف يحدث هذا ؟..هناك ثلاث وجهات نظر أساسية عن التقمص الوجداني، فترى إحدى مدارس الفكر أنه ليس هناك تقمص وجداني، وإننا لا نستطيع أن نطور توقعات،الذين يؤيدون هذا الرأي هم من المؤمنين غالبا بنظرية التعلم البسيطة المكونة من منبه واستجابة، وأصحاب هذه النظرية يقولون أن كل ما لدينا في عملية الاتصال هو مجموعة من الوسائل، رسالة يقدمها شخص ويدركها شخص آخر ، بمعنى آخر هناك منبهات واستجابات، وهذا كل ما في الأمر. ونظرية التعلم البسيطة قد تفسر التعلم غير البشري عند الحيوان ، ولكنها لا تفسر سلوك البشر، فالبشر يطورون توقعات، ولديهم المقدرة على تصور أنفسهم في حالات وظروف الآخرين النفسية، ولهذا لا نستطيع قبول الرأي الذي لا يعترف بوجود التقمص الوجداني، وأننا لا نستطيع أن نطور توقعات وتنبؤات، ذلك لأنه لا بد أن تحدث عملية تفسيرية من نوع ما قبل القيام بالاستجابة، وتطوير التوقعات يحتاج إلى موهبة من نوع ما، فنحن في حاجة إلى أن نفكر في الأشياء التي ليست أمامنا والتي لم نجربها، ولكي يكون لدينا توقعات ، ولكي نتحدث عن الأشياء غير المتوفرة، نحن في حاجة إلى أن نصنع تلك الرموز ونؤثر عليها، فالإنسان يختلف عن الحيوان في أنه يطور كلتا المهارتين التين حدثنا عنهما، فهو قادر على أدراك الرموز والتأثير عليها، كما أنه يستطيع أن يصنع الرموز لتخدم أغراضه، لهذا السبب يستطيع أن يعيد تقديم الأشياء غير الموجودة أمامه، أي تقديم ما ليس هنا وما لا يحدث الآن، ومن الواضح أن الإنسان لديه تلك المهارة، بالرغم من أن هناك اختلافات فردية بين الناس.
لهذا يرفض الباحث الرأي الذي لا يعترف بمفهوم التقمص الوجداني، فنحن جميعاً نتوقع المستقبل. ونقوم بعمل تنبؤات عن العلاقات بين : (1) السلوك الذي نقدم عليه، (2) والسلوك الذي يقدم عليه الآخرون استجابة على سلوكنا، (3) والاستجابة التالية التي نقدم عليها بناء على سلوك الناس.
فنحن نقوم بأكثر من الفعل ورد الفعل، لأننا نطور توقعات عن الآخرين تؤثر على أعمالنا قبل أن نقوم بتلك الأعمال، وهذا ما نعنيه بالتقمص الوجداني.
وهناك نظريتان معروفتان عن أسس التقمص الوجداني. توافق النظريتان على أن المادة الأساسية للتوقعات هي السلوك المادي الذي يقوم به الإنسان وكلتا النظريتين توافقان على أن تنبؤات الإنسان عن الحالات السيكولوجية الداخلية عنده تقوم على السلوك المادي الذي يمكن ملاحظته ، وكلتاهما تتفقان على أن الإنسان يكون تلك التنبؤات باستخدام رموز تشير إلى ذلك السلوك المادي وبالتأثير على تلك الرموز .
أولا – نظرية الاستنتاج في التقمص الوجداني :
Inference Theory of Empathy
تقول نظرية الاستنتاج في مجال التقمص الوجداني أن الإنسان يلاحظ سلوكه المادي مباشره، ويربط سلوكه رمزيا بحالته السيكولوجية الداخلية ، أي بمشاعره وعواطفه.. الخ ، ومن خلال هذه العلمية ، يصبح لسلوكه الإنساني معنى ،أي يصبح (لتفسيراته معنى). يطور الفرد مفهومه عن ذاته بنفسه على أساس ملاحظاته وتفسيراته لسلوكه الخاص .
وبمفهوم الذات، يتصل بالآخرين ويلاحظ سلوكهم المادي، وعلى أساس تفسيراته السابقة لسلوكه وما ارتبط من مختلف المشاعر والعواطف يخرج باستنتاجات عن حالة الآخرين السيكولوجية .بمعنى آخر، يقول لنفسه أنه إذا كان سلوكه يعكس كذا وكذا من المشاعر،إأذا قام شخص آخر بهذا السلوك فهو أيضا يعكس نفس المشاعر التي شعر بها حينما قام بهذا العمل.
هذا الرأي في التقمص الوجداني يفترض أن الإنسان لديه معلومات من الدرجة الأولى عن نفسه، ومن الدرجة الثانية عن الناس الآخرين. ويقول أن الإنسان لديه المقدرة على فهم نفسه، عن طريق تحليل سلوكه الذاتي، ومن هذا التحليل يستطيع الإنسان أن يخرج باستنتاجات عن الآخرين تقوم على أساس أن هناك تماثلاً بين سلوكهم وسلوكه .
ولنأخذ مثالاً لهذا، افترض أنك لاحظت أنك تقوم بدق المائدة بيدك كلما شعرت بالغضب، ثم شاهدت شخصاً أخر يدق بيده على المائدة، حينئذ سوف تستنتج من سلوكه أنه غاضب، أي أنك تستطيع ان تستنتج أحاسيسه الداخلية من : ( أ ) ملاحظة سلوكه، ( ب ) مقارنة سلوكه بسلوك مماثل أقدمت عليه وعبرت فيه عن غضبك .
هذا هو الموقف الذي تأخذه نظرية الاستنتاج المتصلة بالتقمص الوجداني.. فما هي الافتراضات الكامنة فيها ؟
1. إن الإنسان لديه معلومات من الدرجة الأولى عن أحاسيسه الداخلية، ويمكن أن تكون ليه معلومات من الدرجة الثانية عن أحاسيس الآخرين الداخلية .
2. إن الآخرين يعبرون عن أحاسيسهم الداخلية بالقيام بنفس السلوك الذي نقوم به للتعبير عن مشاعرنا.
3. إن الإنسان لا يستطيع أن يفهم الحالة الداخلية للآخرين، ما لم يجرب تلك الحالة بنفسه، فالإنسان لا يستطيع أن يفهم العواطف التي لم يشعر بها والأفكار التي لم تخطر بذهنه .. الخ .
وسنعالج هذه الافتراضات واحدة بعد أخرى:
أولاً: تقول نظرية الاستنتاج في التقمص الوجداني أن معلومات الإنسان عن نفسه هي معلومات من الدرجة الأولى، وكل المعلومات الأخرى هي معلومات من الدرجة الثانية، وسنناقش هذا الافتراض ونحن نستعرض نظرية أخذ الأدوار في التقمص الوجداني .
ثانيا : الافتراض الثاني يشير إلى أن كل الناس تعبر عن أحاسيسها بسلوك واحد متشابه في مجموعه، وأن كل الناس يعنون نفس الأشياء بالسلوك الذي يقدمون عليه، ولكن هذا الافتراض لا يمكن قبوله بشكل مطلق ، بل وكثيراً ما يفشل الاتصال بسبب هذا الاعتقاد، فنحن نفترض دائماً أن الشخص الآخر يعطي نفس المعنى الذي نعطيه لكلمة ما، وأن ابتسامة من شخص آخر تعبر عن نفس الحالة الداخلية التي تعبر عنها ابتساماتنا، وأن الآخرين يرون العالم بنفس الطريقة التي نراه بها، لمجرد أنهم يقومون بقدر كبير من السلوك المادي الذي نقوم به .
حقيقة أننا كثيراً ما نتوصل إلى أفكارنا على الحالات الداخلية للآخرين باستنتاجها من حالاتنا الذاتية، كما نربطها بسلوكنا الذاتي، ولكننا ونحن نفعل ذلك كثيراً ما نخطئ، فنحن نفشل دائماً في معرفة ما يحدث في نفوس الآخرين حينما نفترض أنهم مثلنا .
ونحن في حاجة إلى استخدام أسلوب آخر في معالجة التقمص الوجداني يفسر تفسيراً كاملاً نجاحنا في التنبؤ بسلوك الآخرين، وتوقع ذلك السلوك ونحن في حاجة إلى أسلوب يفترض أن الناس ليسوا متماثلين .
علاوة على هذا هناك دلائل تشير بعدم صحة الافتراض الثالث لنظرية الاستنتاج الذي يقول بأننا لا نستطيع أن نفهم المشاعر الداخلية للناس الآخرين ما لم نجربها بأنفسنا، وحقيقة أن الإنسان يفهم بشكل أفضل تلك الأشياء التي جربها بنفسه، ولكنه يستطيع بالرغم من ذلك أن يفهم (على الأقل جزئياً) بعض المشاعر التي لم يجربها، على سبيل المثال نستطيع أن نحس بشعور الأم عندما تفقد طفلها، ونستطيع أن نتصور مشاعر السعادة التي يشعر بها الفرد الذي يتزوج الفتاة التي يحبها، بالرغم من أننا نحن أنفسنا لم نتزوج، فالتجربة تزيد فهمنا، ولكنها ليست أساسية للفهم .
والحجج الأساسية في نظرية الاستنتاج للتقمص الوجداني فيها بعض المزايا، إلا أن نظرية الاستنتاج لا تفسر التقمص الوجداني بشكل يبعث تماماً عن الرضا، لذلك سنهتم بنظرية أخذ الأدوار التي روجها جورج ميد، وتعتبر أنعكاساً لوجهة النظر السيكولوجية الاجتماعية .
ثانيا : نظرية أخذ الأدوار في التقمص الوجداني :
إذا افترضا أن معلومات الإنسان من الدرجة الأولى هي عن نفسه، أو أن الإنسان يكوّن مفهوماً معيناً عن ذاته قبل أن يتصل بالآخرين، نستطيع أن نفحص سلوك بعض الأفراد ونحاول أن نفسر نتائج ذلك السلوك على التقمص الوجداني .
إذا نظرنا إلى الطفل الرضيع وكيف يتصرف وكيف يطور قدراته على التقمص الوجداني، نجد أن المادة الرئيسية التي يلاحظها الطفل هي السلوك المادي أي الرسالة السلوكية، والطفل مثل أي شخص آخر يستطيع أن يلاحظ، ويقوم بسلوك عادي.. السؤال الآن هو كيف يطور الطفل تفسيراته عن ذاته وعن الآخرين ؟
إن أصحاب نظرية أخذ الأدوار يدّعون أن الطفل المولود حديثاً لا يستطيع أن يميز أو يفرق عن الآخرين ولكي يطور فكرته عن ذاته يجب أن ينظر الطفل أولاً إلى نفسه كشيء وأن يتصرف تجاه نفسه كما يتصرف تجاه الناس الآخرين، بمعنى آخر فكرة الذات لا تسبق الاتصال، بل تتطور من خلال الاتصال، الطفل الصغير يقلد كثيراً، فهو يلاحظ سلوك الآخرين ويحاول أن يقلد سلوكهم بقدر الإمكان، بعض السلوك الذي يقلده سلوك موجه إليه، فأمه تحدث أصواتا حين تتحدث في وجوده، ويبدأ الطفل في تقليد تلك الأصوات ووالده يحرك عضلات وجهه ( يبتسم) في وجوده فيبدأ في تقليد حركات الوجه هذه .
وبتقليد السلوك الموجه إليه يبدأ الطفل بنفسه في التصرف، كما يتصرف الآخرون نحوه، ولكن ليس لديه تفسير لتلك الأعمال أو التصرفات، وليس لتصرفاته معنى عنده، هذه هي بداية أخذ الأدوار وبداية تطوير الذات، وفي المرحلة الأولى من مراحل أخذ الأدوار يمارس الطفل فعلاً أدوار الآخرين بدون أن يفسرها، يقلد سلوك الآخرين، ويجازى على استجاباته التي يأخذ فيها أدواراً، فيترك الاستجابات التي لا يرضى الآخرون عنها، في حين يستبقي الاستجابات التي حظيت بقبولهم.
وبتطور الطفل يزداد سلوكه الذي يأخذ فيه أدوار الآخرين، ويتصرف نحو نفسه بشكل متزايد، بنفس الطريقة التي يتصرف بها الآخرون نحوه، في نفس الوقت، يتعلم أن يصنع مجموعة من الرموز ويتحكم فيها، يصنع رموزاً لها معنى عنده وعند الآخرين، وحينما يزود الطفل بمجموعة من الرموز، يستطيع أن أ يبدأ في فهم الأدوار التي يأخذها، ويستطيع أن يفهم كيف سيتصرف الآخرون نحوه، كما يستطيع أن يبدأ فعلاً في وضع نفسه في أماكن الآخرين، وينظر إلى نفسه بالطريقة التي ينظر بها الناس إليه، وكثيراً ما نشاهد أطفالاً صغاراً يبلغون من العمر عامين أو ثلاثة يلعبون بإقامة حفلات شاي يتخيلونها، ونسمعهم يؤنبون بعضهم البعض، بصنع رسائل كانت قد وجهت إليهم، مثل احمد يجب ألا تفعل ذلك وألا حرمتك من الحلوى، أو لا يا زينب، ليست هذه هي الطريقة التي يجب أن تجلسي بها على المائدة .
حينما يتصرف الطفل بهذا الشكل، فهو ينظر إلى نفسه كمحور للسلوك، أي ينظر إلى نفسه على أنه شيء خارجي، فهو يلعب دور الوالدين، ويضع نفسه في مكان الوالدين، هذه هي المرحلة الثانية من مراحل اخذ الأدوار، وفيها يلعب الطفل أدوار الآخرين بفهم، وحينما ينضج الطفل يقوم بأدوار الآخرين الأكثر تعقيداً، وباستخدام الرموز يستنتج أدوار الآخرين ويحتفظ بتلك الأدوار في ذهنه، بدلاً من القيام بأدوار الآخرين مادياً، هذه هي المرحلة الثالثة من مراحل القيام بدور، وهي المرحلة التي يبدأ فيها الطفل في وضع نفسه في أماكن الآخرين رمزياً، بدلاً من وضع نفسه مكانهم مادياً .
وحينما يضع الطفل نفسه في مكان الأطفال الآخرين، يطور توقعات عن سلوكه الذاتي أي عما هو متوقع منه في هذه الظروف، ثم يتصرف بعد ذلك وفقاً لتلك التوقعات، كما يحددها أخذه لأدوار الآخرين، إذا قام بعمل جيد، وهو يأخذ الأدوار سيتفق سلوكه مع توقعات الآخرين وسيكافؤنه، وإذا لم يقم بما هو متوقع منه في اخذ الأدوار لن يكافئ، بل سيعاقبه الآخرون، وباستمرار، بالمساهمة في نشاط الجماعة، يمارس الطفل أدواراً كثيرة يقوم بها الآخرون، وفي قيامه بتلك الأدوار ينظر إلى نفسه كمتلقي، وكمحور للسلوك، وبالتدريج يبدأ في التعميم عن ادوار الآخرين، أي يبدأ في تكوين أفكار عامة عن الطريقة التي سوف يتصرف بها الآخرون، وكيف يفسرون وكيف يستجيبون عليه، ويسمى هذا مفهوم التعميم عن الآخرين، والتعميم عن الآخرين هو عملية تجريدية تقوم على ما يتعلمه الفرد عن الأدوار الفردية الشائعة التي يقوم بها الآخرون في جماعته .
كل منا يطور ويعمم عن الآخرين، على أساس خبراتنا في ظروف اجتماعية معينة، وعلى أساس أدوار الآخرين المتتابعة التي نقوم بها، التعميم عن الآخرين يوفر لنا مجموعة من التوقعات عن الطريقة التي يجب أن نتصرف بها، هذا هو ما نعنيه بمفهوم الذات، أي أن مفهوم الذات عندنا هو مجموعة من التوقعات التي نعتنقها، عن الطريقة التي يجب أن نتصرف بها في ظرف معين، كيف نطور مفهوم الذات ؟.. أننا نطوره عن طريق الاتصال، وعن طريق أخذ أدوار الآخرين وعن طريق التصرف نحو الآخرين، كمحور للاتصال، وعن طريق تطوير تعميم عن الآخرين.
نظرية الاستنتاج تفترض وجود مفهوم الذات، وتقترح أننا نستطيع أن نتقمص وجدانيا باستخدام مفهوم الذات، لنخرج باستنتاجات عن حالات الآخرين الداخلية، وتقترح نظرية الاستنتاج أن مفهوم الذات يحدد كيف نتقمص وجدانيا، أما نظرية أخذ الأدوار فتعالج الموضوع من الناحية الأخرى تماماً .
فتقترح أن مفهوم الذات لا يحدد التقمص الوجداني بدلاً من ذلك، الاتصال يؤدي إلى مفهوم الذات، وأخذ الأدوار يسمح بالتقمص الوجداني، كلتا النظريتين تعطيان أهمية كبيرة لطبيعة اللغة والرموز المهمة في عملية التقمص الوجداني وتطوير مفهوم الذات .
أي منهما نصدق ؟.. وكيف يتقمص الإنسان وجدانيا ؟.. نقول أن الإنسان يستخدم كل تلك الأساليب في التقمص الوجداني، فالإنسان يبدأ بأخذ الأدوار، فكل منا يأخذ أدوار الآخرين، وكل منا يعمم عن الآخرين، والطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا يحددها مفهومنا أو أسلوبنا في التعميم عن الآخرين، والمضمون الاجتماعي الموجود وتوقعات الآخرين عن سلوكنا.
حينما ننضج نطور أو نبني مفهوم الذات، ثم نعمل وفقاً له، نبدأ الآن في عمل استنتاجات عن الآخرين، تقوم على أساس مفهومنا عن الذات، فنقلل من قيامنا بأدوار الآخرين، ونزيد من استخدامنا للاستنتاجات، ونفترض أن الناس الآخرين مثلنا وأن سلوكهم يعكس نفس الحالات الداخلية التي يعكسها سلوكنا، ونستمر في القيام بذلك حتى يصبح هذا العمل غير مجزياً .
حينما نتقمص وجدانيا، بعمل استنتاجات ثم لا نجازى عليها نضطر إلى نلجأ إلى حل واحد من حلين أما :
1. أن نحرف سلوك الآخرين الذي ندركه ونجعله يتفق مع توقعاتنا.
2. أو أن نعيد النظر في صورتنا الذهنية عن أنفسنا، ونعيد تعريف ذاتنا، ونعود مرة أخرى إلى أخذ الأدوار.
وإذا لجأنا إلى الحل الأول أي تحريف العالم الذي ندركه، نصبح مرضى بأمراض عقلية، وتصبح لدينا تصورات غير واقعية، وينتهي بنا المطاف في مستشفى للأمراض العقلية، وهذا ليس مرغوباً فيه، ونستطيع أن نتنبأ بأن مشكلة الصحة العقلية متصلة بعدم مقدرة الإنسان أو عدم رغبته في تغيير صورته الذهنية عن نفسه، حينما يجد أن هذه الصورة غير مجزية في الظروف الاجتماعية المحيطة به .
وماذا عن الحل الثاني البديل، أي إعادة تعريف الذات ؟.. لكي نفعل هذا علينا أن نعود إلى اخذ الأدوار، أدوار الآخرين، وأن نطور مفهوماً جديداً للتعميم عن الآخرين، ومجموعة جديدة من التوقعات عن سلوكنا، حينما نفعل ذلك نعيد أنفسنا ونغير سلوكنا، وفقاً لهذا التعريف الجديد، ونبدأ مرة أخرى في الخروج باستنتاجات عن الناس الآخرين .
حينما نلعب دور شخص آخر، نجمع في وقت واحد نظريتي الاستنتاج وأخذ الأدوار، وحينما نلعب دوراً نحن نقدم في الواقع على سلوك معين، من هذا نستطيع أن نستنتج حالاتنا الداخلية المتصلة بهذا السلوك أو ذاك، ونستطيع أن نستخدم تلك الاستنتاجات في القيام بدور شخص آخر.
فعمليتا القيام بدور والاستنتاج تسيران سوياً باستمرار، فهي تعني أن الإنسان يكيف نفسه، ويستطيع أن يغير سلوكه ليتفق مع الظروف والوضع الاجتماعي الذي يجد نفسه فيه، وذلك بأن يطور توقعات يقوم فيها بأدوار الآخرين أو باستنتاجات، أو يفعل الأمرين معاً.
والسؤال هنا متى نجد أنه من الضروري أن نعيد تعريف الذات ؟.. نشعر بالحاجة إلى ذلك حين ندخل في جماعة جديدة أو نجد أنفسنا في ظروف اجتماعية مختلفة، على سبيل المثال حينما يدخل مراهق الجامعة، يجد نفسه في ظرف اجتماعي جديد، وعندئذ قد تكون استنتاجاته عن الآخرين غير صالحة لحياته الجديدة، لذلك يقوم بعمل تنبؤات خاطئة، وتصبح توقعاته مهزوزة، وعادة ما يبدأ في سؤال نفسه هذا السؤال: من أنا في حقيقة الأمر ؟
ماذا يفعل المراهق ؟.. يبدأ في أخذ الأدوار في مرحلة مبكرة، أي يبدأ في تقليد سلوك الآخرين بدون أن يكون لهذا التقليد معنى، وتدريجياً يأخذ أدوار الآخرين من الطلبة أو المدرسين ... الخ، ويضع نفسه في موقف الآخرين وينظر إلى نفسه من خلال أعينهم، وهو إذ يفعل ذلك يطور مفهوماً جديداً عن الآخرين، ومجموعة جديدة من التوقعات عن سلوكه الذاتي، وهكذا يعيد تعريف نفسه، ويبدأ في التصرف وفقاً لهذا التعريف الجديد.
هذه العملية مطلوبة منا، أكثر من مرة، في مواقف كثيرة من حياتنا، فحينما ندخل في مجتمع جديد أو ننضم إلى جماعة جديدة أو نسافر إلى حضارة مختلفة، تضعف قدرتنا على التنبؤ، حينئذ يصبح من الصعب أن نصنع استنتاجات أساسها معرفتنا الذاتية، وإذا كأن علينا أن نعمل بفاعلية على تغيير الوضع الاجتماعي، نحن في حاجة إلى أن نأخذ أدوار الآخرين، ونعيد تعريف أنفسنا، عندما يتم ذلك يصبح هذا إلى حد ما علامة على أن الإنسان قد تكيف.
دور وسائل الإعلام في تنمية المقدرة على التقمص الوجداني
(نظرية دانييل لرنر) :
يعتبر عالم الاجتماع الأمريكي دانييل لرنر أن المقدرة على التقمص الوجداني من الخصائص الأساسية اللازمة لانتقال المجتمع من الشكل التقليدي إلى الشكل الحديث، ويفترض أن هذه الخاصية كانت تكتسب في الماضي بتحرك الأفراد مادياًن وانتقالهم من مكان إلى أخر، واختلاطهم بالآخرين، في القرن العشرين أصبحت هذه الخاصية تكتسب أساساً عن طريق وسائل الإعلام التي قامت بنقل العالم الخارجي إلى الأفراد الذين لم تتح لهم الفرصة لكي يسافروا أو يتركوا مجتمعاتهم المحلية .
وقد ربط لرنر المقدرة على التقمص الوجداني بتسلسل تاريخي حدث في المجتمعات الغربية، فأشار في استعراضه لانهيار أو زوال المجتمع التقليدي في الشرق الأوسط " بناء على المادة التي جمعها له مركز الأبحاث التطبيقية في جامعة كولومبيا الأمريكية عن ست دول في الشرق الأوسط، وبناء على المادة التعليمية التي حصل عليها عن 54 دولة" على أن هناك مراحل محددة يمر بها المجتمع ليصل إلى المرحلة الحديثة، المدينة تتسع لتشمل القرى المجاورة، نسبة أكبر من الأفراد تتعلم القراءة، وتتعلم كيف تكون آراء، نسبة أكبر تشتري الصحف وتستمع إلى الراديو، ونسبة أكبر تكتسب القدرة على التقمص الوجداني أي تصور نفسها في مواقف وظروف الآخرين، ثم يتسع نطاق المساهمة السياسية والاقتصادية .
ونظرية لرنر مستخلصة من التاريخ، فقد وجد من استعراضه لتطور الديمقراطيات الغربية أن عملية التحضر أظهرت بعض التسلسل والخصائص التي يمكن أن نعتبرها عالمية، أي تحدث في جميع المجتمعات، ففي كل مكان حدث فيه الانتقال إلى المدن زادت نسبة المتعلمين، وزيادة نسبة المتعلمين رفعت نسبة من يتعرضون لوسائل الإعلام، وزيادة التعرض لوسائل الإعلام سارت موازية لاتساع المساهمة الاقتصادية، أي الدخل القومي، والمساهمة السياسية أي الانتخاب، هذا التسلسل الذي حدث في الديمقراطيات الغربية هو حقيقة تاريخية، وقد صحب تلك التطورات التي تظهر في التطور التاريخي خاصية سيكولوجية هي مقدرة الأفراد على تصور أنفسهم في ظروف الآخرين، فقد تميز الغرب في مراحل تطوره الأولى بأنه كان يتسم بأوضاع غير ثابتة، فقد حدثت فيه هجرات مستمرة للوصول إلى أرض جديدة، يستطيع الناس أن يحققوا فيها ربحاً، وأصبح الأفراد الذين تركوا أوطانهم يتميزون بشخصيات متحركة، وبقدرة عالية على استيعاب الجوانب الجديدة في الظروف المحيطة . فقد تحركوا وهم مهيئون ومجهزون لاستيعاب مطالب جديدة عليهم، يفرضها محيطهم الخارجي الجديد، أشياء قد لا يكونون قد جربوها من قبل، هذا الاستعداد جعلهم قادرين على التقمص الوجداني .
المجتمع التقليدي مجتمع لا يساهم أفراده في أوجه النشاط السياسي، والقر